فتاوي
فتوى صادرة من دار الافتاء المصرية
يقول الدكتور نصر فريد واصل مفتي مصر
فالتبرع بالدم للمحتاجين فرض كفائي، فإذا تقاعس الناس عنه، أو لم يتم التبرع بالقدر المطلوب جاز لولي الأمر أن يجبر الناس على التبرع بالدم، بشرط ألا يتحقق ضرر على المتبرع في الحال أو في المستقبل، وأن يكون هناك مساواة بين الناس في التبرع ،بالقدر الذي يكفل التساوي بين الأفراد المأخوذ منهم .
و نهى المسلم مِن تعريض حياة أخيه المسلم للهلاك، فقال صلى الله عليه وسلم: "المسلمُ أخو المسلمِ لا يَخذلُه ولا يَظلِمُه ولا يُسلمُه" (رواه الترمذيُّ).
بل إن إحياء النفوس المَعصومة من المسلمين وغير المسلمين من أجلِّ القُرُبات وأعظمِها عند الله ـ تبارك وتعالى ـ لقوله: (ومَن أحْيَاهَا فكأنَّمَا أحيَا الناسَ جميعًا) (المائدة: 32).
وإحياء النفس إنما يكون بإنْقاذها مِن أسباب الهلاك المُحقَّق وإيثارها على الذات، ولذلك فقد راعَى الإسلام ضرورةَ المُحافَظة على الكليَّاتِ الخمْس وهي "الدِّينُ والنفْسُ والعقْلُ والنسْلُ والمالُ" والأربعة الأولى من داخل الإنسان والخامِسة مِن خارجه.
فالواجباتُ الكفائيَّة المُطالَب بها مَجموعُ أفراد الأمة إذا أدَّاها البعضُ سقَط الإثْمُ عن الباقِينَ، وإذا أهمَلها الجميعُ أثِمُوا جميعًا، أثِمَ القادرُ لإهمالِهِ واجبًا قَدَرَ على أدائه، وأثِمَ غيرُه لإهمالِه حَثَّ القادر وحَمْلَه على فِعْلِ الواجب المَقدور عليه.
أن التبرُّع بالدم يُعدُّ أمرًا حَيويًّا وضَروريًّا لا يُمكن الاستغناء عنه في حياة الناس، وهو نَسيجٌ مِن أهم أنسجة الجسم يَتجدَّد دائمًا ومُستمر التجدُّد، ممَّا يُعتبَرُ نِعمةً مِن نِعَمِ الله على عباده كالماء والهواء؛ لأن في تَجدُّده واستمراره استبقاءً للحياة.
ومعلوم أن الدم لا يُمكنُ استحضارُه صناعيًّا لتَكوُّنِهِ من خلايَا حيَّةٍ لا يَزال العلْمُ عاجزًا عن صُنْعِها، ومِن لُطفِ الله أن الجسم يَستطيع في ساعاتٍ قليلةٍ تَعويضَ النقْص مِن خلال نَشاط خلايَا النُّخاع في إعادة تكوينه ودفْعه إلى باقي أجزاء الجسم إذا كانت الكمية المَنقوصة منه في الجسم قليلة.
أما إذا كان النقص شديدًا فلا بدَّ مِن تَعويضه بكِمية من الدم من خارج الجسم تَتوافَقُ عناصرُها مع عناصر الجسم الذي يَحتاج إلى تعويض الناقص منه حتى تَستمرَّ دورةُ الحياة للإنسان، ومِن هنا كانت الحاجة ماسَّةً إلى وُجوب التبرُّع بالدم لمُواجهة ما قد تَفرضه ضروراتُ الحياة مِن حوادثَ وكوارثَ وعملياتٍ جراحيةٍ وغير ذلك. ولقد قُدِّرتِ الحاجة في مصر لكميات الدم المَطلوب كل عام إلى حوالِي مليونٍ ونِصفِ وَحدةٍ دم، وقد تَرتفع الحاجة إلى مِليونَيْ وَحدةٍ سنويًّا لتغطية باقي الاحتياجات، بناء على ما تُقدره التقارير الطبية وأهل الخبرة والاختصاص العُدول، والتي أصبحت مَعلومة للكافَّة مِن غير نَكيرٍ منهم. ولو تُرك الناس وشأنَهم للتبرُّع طواعيةً دون إلْزام مِن وَلِيِّ الأمرِ لظلَّ الحالُ على ما هو عليه مِن نقْصٍ شديدٍ في المَعروض مِن هذا النسيج الحيويِّ، وأدَّى ذلك إلى هلاكِ الكثيرينَ بسبب إحجامِ القادرينَ على العَطاء تبرُّعًا وإلى خلْقِ سوقٍ سوداءَ لتِجارة الدماء.
وفي مثل هذه الأحوال يَتحوَّلُ الواجبُ الكفائيُّ إلى واجبٍ عَيْنيٍّ على الجميع فيما بينهم، يتمُّ بطَريق الإلْزامِ إذا لم يَتحقَّقْ أداؤُه اختيارًا بطَريقِ الالْتزامِ الشرعيِّ دِيانةً. ويُلزم الجميع به إعمالًا للقاعدةِ الشرعيَّة: "الضرر الأشدُّ يُزالُ بالضرَرِ الأخفِّ". "وما لا يَتمُّ الواجب إلا به فهو واجبٌ".
وهنا يَتعيَّنُ على كل قادر إعطاءُ جزءٍ مِن دمَه لإخوانه على سبيلِ التعْيِين والإلْزام حِفاظًا على نفسِه ورُوحه؛ لأن نفسَه داخلةٌ في نفوس الجماعة، لذلك جاء قوله تعالى: (ولا تُلْقُوا بأَيْدِيكمْ إلَى التَّهْلُكَةِ) بصيغةِ الجمْع، وقوله تعالى: (ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكمْ إنّ اللهَ كانَ بكمْ رَحِيمًا) (النساء: 29).
جاء في فتاوى لجنة الفتوى بالأزهر :
القادر الصحيح إذا أعطى الدم لمريض في حاجة ماسة إليه استحق من الله ثواب ما أعطي، وجزاء ما قدم، وناله من إخوانه حسن الأحدوثة، وجميل الذكر، ويدخل بذلك في عداد ذوي المروءات، ومثله كمثل من يسارع إلى إنقاذ غريق، أو من وقع في حريق عملاً بعموم قول الله –تعالى- في سورة المائدة: "وتعاونوا على البر والتقوى".
وقوله –تعالى- ثناء ورضاء عمن يقدم حاجة غيره على نفسه: "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون".
يقول فضيلة الشيخ عبد الخالق الشريف أحد علماء مصر :
التبرع بالدم هذا من باب الضرورات التي تبيح المحظورات، فبعض المرضى ينزفون دمًا كثيرًا، بينما أخذ كمية قليلة من الأصحّاء من هذا وذاك لا تضره ولا تؤذيه، من أجل هذا أجاز العلماء التبرع بالدم، والأصل أن هذا بلا عوض؛ لأن الدم الذي تبرع به لا يملكه، إنما هو فضل من الله، فإذا توقف الأمر عند حد إعطاء المتبرع كوبًا من اللبن أو العصير ليعيد نشاطه فلا حرج، وأما إعطاء المال على ذلك فلا أرى حله.أهـ
أ- هل يجوز لي التبرع بنقل دم لمريض أوشك على الهلاك وهو على غير دين الإسلام؟
و يجيب عن هذا السؤال: سماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز - مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء(رحمه الله)
لا أعلم مانعا من ذلك، لأن الله تعالى يقول جل وعلا في كتابه العظيم: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة: 8].
فأخبر سبحانه أنه لا ينهانا عن الكفار الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا أن نبرهم ونحسن إليهم، والمضطر في حاجة شديدة إلى الإسعاف، وقد جاءت أم أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها إلى بنتها؛ وهي كافرة، في المدينة في وقت الهدنة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مكة تسألها الصلة، فاستفتت أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فأفتاها أن تصلها، وقال: صلي أمك وهي كافرة.
فإذا اضطر المعاهد أو الكافر المستأمن الذي ليس بينا وبينه حرب، إذا اضطر إلى ذلك فلا بأس بالصدقة عليه من الدم، كما لو اضطر إلى الميتة، وأنت مأجور في ذلك؛ لأنه لا حرج عليك أن تسعف من اضطر إلى الصدقة
فقد أجاز الفقهاء التبرع بالدم التبرع مطلقا فإنقاذ نفس إنسانية من الهلاك يُعدُّ من أعظم القرب والطاعات التي يُتقرب بها إلى الله ، قال الله –تعالى-:" وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" [المائدة:2] وفي الحديث" والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" رواه مسلم من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه.
وقد أجاز مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في مكّة المكرّمة في دورته الثامنة المنعقدة بين 19 – 28 يناير 1985 (أخذ عضو من جسم إنسان حي، وزرعه في جسم إنسان آخر مضطرّ إليه، لإنقاذ حياته أو لاستعادة وظيفة من وظائف أعضائه الأساسية).
والدين الإسلامي يقوم على مبدأ احترام النفس الإنسانية، فإن كان هذا المريض الذي يحتاج للتبرع غير المسلم، وكان لا يعادي الإسلام ، ولم يرتكب جرما في المسلمين فلا مانع من التصدق عليه بالتبرع بالدم، وهذا يعدُّ من أفضل القربات وأعظمها، كما أنه يبين صورة الإسلام المشرقة.
والله أعلم.